زرت من أيام صديق لي قبيل المغرب , فجاء ولده يسلّم علي وهو مصفرّ الوجه بادي الضعف , فقلت : خيراً إن شاء الله ؟
فقال أبوه : مابه من شيء , ولكنه كان نائماً !
فقلت : ماله ينام في عير وقت المنام ؟
قال : ليسهر في الليل . إنه يبقى ساهراً كل ليلة إلى الساعة الثانية .
قلت : ولم ؟
قال يستعد للامتحان .
قلت أعوذ بالله هذا أقصر طريق للوصول إلى السقوط في الامتحان . لقد دخلت خلال دراستي الابتدائية والثانوية والعالية امتحانات لا أُحصي عددها فما سقطت في واحد منها , بس كنت فيها كلّها من المجلين السابقين , وماسهرت من أجلها ساعة , بل كنت أنام أيام الامتحانات أكثر مما أنام في غيرها .
فعجب الولد , وقال : تنام أكثر ؟
قلت : نعم , وهل إلاّ هذا ؟ الامتحان مباراة . أفرأيت رياضيّاً , ملاكماً أو مصارعاً يهد جسمه ليالي المباراة بالسهر , أم تراه ينام ويأكل ويستريح ليدخل المباراة قوياً نشيطاً ؟ إن أول نصيحة أسديها لمن يدخل الامتحان من الطلاب والطالبات أن يحسن الغذاء و أن ينام ثماني ساعات .
أول نصيحة أسديها لمن يدخل الامتحان من الطلاب والطالبات أن يحسن الغذاء و أن ينام ثماني ساعات .
قال : والوقت ؟
قلت : إن الوقت متّسع , وإن ساعة واحدة تقرأ فيها وأنت قوي مستريح تنفعك أكثر من أربع ساعات تقرؤها وأنت نعسان تعبان , تظن أنك حفظت الدرس وأنت لم تحفظه .
قال : إن كانت هذه النصيحة الأولى , فما الثانية ؟
قلت : أن تعرف نفسك أولاً , ثم تعرف كيف تقرأ ؛ فإن من الطلاب من يسمع الدرس من المعلّم فينساه فإذا قرأه بنفسه استقر فيها , ومنهم من يقرأ فينسى فإذا سمع بأذنه حفظ .
أي أن من الناس من هو " بَصرَي " يكاد يذكر في الامتحان صفحة الكتاب ومكان المسألة منها , ومنهم من هو " سَمعِي " يذكر رنّة صوت الاستاذ . فإن كنت من أهل البصر فادرس وحدك , وإن كنت من أهل السمع فأدرس مع رفيق لك مثلك واجعله يقرأ عليك .
قال : وكيف اعرف نفسي ؟
قلت أنا أكتب عشر كلمات لا رابطة فيها ( مثل : كتاب , مئذنة , سبعة عشر , هارون الرشيد .... ) واقرؤها عليك مرّة واحدة , ثم تكتب أنت ماحفظته منها وأكتب مثلها وأطلعك عليها لحظة وتكتب ماحفظته منها . فإن حفظت بالسمع أكثر فأنت سمعي , وإلاّ فأنت بصري .
قال : والنصيحة الثَالِثَة ؟
قلت : أن تجعل للدراسة برنامجاً تراعي فيه تنويع الدروس , فإذا تعبت من الحساب أو الجبر اشتغلت بعده بالتاريخ أو الأدب , فيكون ذلك كالراحة لك من تعب الأول .
وأحسن طريقها وجدتها للقراءة أن تمر أولا مرّا سريعاً على الكتاب كلّه , ثم تفهم فصلاً فصلاً منه , على أن يكون القلم قي يدك إن كنت تقرأ بنفسك , فالجملة المهمّة تخط تحتها خطّا بالأحمر , والشرح الذي لا ضرورة له تضرب عليه بخط خفيف , والفقرة الجامعة تشير إليها بسهم .
ثم يأتي دور المراجعة , فتأخذ الكتاب معك وتمشي في طريق خال , وتستعرض في نفسك مسائل الكتاب مسألة مسألة , تتصوّر أنك في الامتحان وأن هذا السؤال قد وجّه إليك , فإذا وجدت أنه حاضر في ذهنك تركته , وإلاّ فتحت الكتاب فنظرت فيه نظرة تقرأ فيها الفقرات و الجمل التي قد أشرت إليها فقط فتذكر مانسيته , وإن وجدت أنك لا تذكر من المسألة شيئاً أعدت قراءة الفصل كلّه .
الرَابعَة : ألاّ تخاف . والخوف من الامتحان لا يكون من الغباء ولا التقصير ولا الجبن , ولكن الخوف من شيء واحد وهو منشؤه وسببه , ذلك أن بعض الطلاب ينظرون إلى الكتاب الكبير والوقت القصير الباقي , ويريدون أن يحفظوه كلّه في ساعة فلا يستطيعون , فيدخل عليهم الخوف من أن يجيء الامتحان وهم لم يكملو حفظه .
ومثلهم مثل الذي يريد أن يمشي على رجليه من المزة إلى المطار ليدرك الطيارة وما معه الاّ ساعتان , فإذا قال لنفسه : كيف أصل ؟ أو ركض كالمجانين فتعب حتى وقع , ولم يصل أبداً . وإن قسّم الوقت والخطا وقال لنفسه : إن عليّ أن أمشي في الدقيقة مئة خطوة فقط , سار متمهّلاً مطمئنّاً ووصل سالماً .
وَ الخَامِسَة : وأن بعض الطلاب يقف أمام غرفة الامتحان يعرض في ذهنه مسائل الكتاب كلّها , فإذا لم يذكرها اعتقد أنّه غير حافظ درسه واضطرب وجزع , مع أنه يستحيل أن يذكر المسائل كلّها دفعة واحدة وإن كان يعرفها .
كم تعرف من أسماء إخوانك وأصدقائك ؟ هل تستطيع أن تسردها كلّها سرداً في لحظة واحدة ؟ لا , ولكن إذا مرّ الرجل أمامك أو وصف لك ذكرت اسمه . فغيابها عن ذهنك ليس معناه أنها فقدت من ذاكرتك .
وَ السَادِسَة : أنك كلّما قرأت درساً استرحت بعده أو انصرفت إلى شيء بعيد عنه ليستقر في ذهنك . ومن الطلاب من يقرأ الدرس فإذا فرغ منه عاد إليه , ويكرر ذلك مرات , يحسب أن ذلك خيراً له مع أن ذلك كمن يأخذ صورة بـ " الفوتوغراف " ثم يأخذها مرة ثانية من غير أن يبدّل اللوحة أو يدير الفلم فتطمس الصورتان .
السَابِعَة : أن عليك أن تستريح ليلة الامتحان , وتدع القراءة وتأخذ قصّة خفيفة , أو تزور أهلك أو أصدقاءك , أو تتلهّى بشيء يصرفك عن التفكير في الامتحان . وأن تنام تلك الليلة تسع ساعات أو عشراً إذا استطعت , ولا تخش أن تذهب المعلومات من رأسك فإن الذاكرة أمرها عجيب , ولا سيّما لمن كان في أوائل الشباب ؛ إن ما ينقش في الصبا لا ينسى .
وانا أنسى والله اليوم ماذا تعشّيت أمس ولكني أذكر ما كان قبل أربعين أو خمس وأربعين سنة كأني أراه الآن , وأنت تبصر في الرائي ( التلفزيون ) فلماً كنت شاهدته من عشر سنين فتذكره , ولو سألتك عنه قبل أن تدخل لما عرفته .
الثَامِنَة : أن تعلم أن الامتحان ميزان يصح غالباً وقد يخطئ حيناً , وأن المصحح بشر , يكون مستريحاً يقرأ بإمعان وقد يتعب فلا يدقق النظر , وأنه ينشط ويملّ ويصيب ويخطئ , وقد يختلف حكمه على الورقة وعلى أخرى مثلها باختلاف حالي راحته وتعبه ورضاه وسخطه .
وقد جرّبوا مصححاً مرة أعطوه أوراقاً فوضع لها العلامات والدرجات , ثم محو علامته وجاؤوه بها مرة ثانية ليصححها فإذا هو يبدّل أحكامه عليها وتختلف درجاته في المرتين أكثر من عشرين في المئة .
وطلبوا من مصحح مرة أن يكتب هو الجواب الذي يستحّق العلامة التامة , ثم أخذوا جوابه فكتبوه بخط آخر وبدّلوا فيه قليلاً وعرضوه عليه مع الأوراق فأعطاه علامة دون الوسط !
والمصحح ليس في يده ميزان الذهب , وقد يتردد بين الستين من المئة وبين السبعين , وقد يكون في هذه العلامات العشر نجاح التلميذ أو سقوطه .
وربما وقعت الورقة في يد مصحح مشدّدّ فأسقطها ولو وقعت في يد آخر مهوّن لمشّاها .
فما العمل ؟
عليك أن توضّح خطّك , فإن سوء الخط وخفاءه ربما كان السبب في غضب المصحح أو نقمته فأساء حكمه على الورقة فأسقطها . وأن تكثر من العناوين , وأن تقطّع الفقرات وتميّزها , وأن تجتنب الفضول والاستطراد .
وقد يستطرد التلميذ فيذكر أمراً لم يطلب منه , يريد أن يكشف به عن علمه , فيقع بخطيئة تكشف جهله فتكون سبب سقوطه .
هذا الذي عليك , وهذا الواجب في الامتحان وغيره . على المرء أن يسعى ويعمل , ولكن ليس النجاح منوطاً دائماً بالسعي والعمل .
يمرض اثنان , فيستشيران الطبيب الواحد , ويتخذان العلاج الواحد , ويكونان في المشفى في الغرفة الواحدة , وتكون معاملتهما واحدة , فيموت هذا ويبرأ هذا . فِلمَ ؟ من الله .
ويفتح اثنان متجرين , ويأتيان بالبضاعة الواحدة ويتخذان طريقة للبيع واحدة , فيقع هذا على صفقة تجعله من كبار الأغنياء ويبقى ذلك في موضعه , فلِمَ ؟ من الله .
وأنا لا أقول لأحد أن يترك السعي . السعي مطلوب , وعلى التلميذ أن يقرأ الكتاب كلّه حتى الحاشية التي لا يهتم غيره بها , إذ ربما كان السؤال في الامتحان منها , وبعد ذلك يتوجه إلى الله فيطلب منه النجاح .
وهذه خاتمة النصائح ولكنها أهمّها . وأنا أعلم أن من السامعين من يسخر مني إذ أقولها , وهو يستطيع أن يسخر مني أو يقول عني في غيابي ما شاء , ولكنه لا يستطيع أن يثبت بالبرهان أن الذي أدعو إليه باطل .
فيا أيها الطالب إذا أكملت استعدادك وعملت كل ماتقدر عليه , فتوجه إلى الله وقل : يَا رَبّ , أّنَا عَمِلتُ مَا اسْتَطِيعُهُ , وَهُنَاكَ أَشيَاءُ لاَ استَطِيعُهَا أَنَتَ وَحدَكَ تَقدِرُ عَلَيهَا , فَاكتُبْ لِي بِقُدرَتِكَ النَجَاح , وَلاَ تَجعَل وَرَقَتِي تَقَعُ فِي يَدِ مُصحّحِ مُشَدّدٍ لاَ يَتَسَاهَلُ , أَو مُهمِلٌ لاَ يُدقّقُ , أَو سَاخِطٌ أَو تَعبَانٌ لاَ يَحكُمُ بِالحَقّ .
وانظر قبل ذلك , فإن كنت على معصية في سلوككَ وفي عملكَ فتب منها , وإن كنتِ أيتها الطالبة على معصيةٍ في ثيابكِ ولباسكِ وسيرتكِ وكنت على مخالفة لحكم الشرع فارجعي عنها , وإن كان منكم جميعاً تقصير في حق الله فدَعوا التقصير , وأقيموا الفرائض , واجتنبوا المحرّمات , فإن هذا هو طريق النجاح .
وليست هذه الوصفة من عندي , ولكنها وصفة ( راشتة ) وكيع شيخ الشافعي :
شَكَوتُ إِلى وَكِيعٍ سُوءَ حِفظِي فَأَرشَدَنِي إِلَى تَركِ المَعَاصِي
وَ قَالَ بِإنّ هَذَا العِلمَ نُورٌ وَ نُورُ اللهِ لا يُهدَى لِعَاصِي
مماراق لي